مقـامَــــة الـمــــوت
(( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ))
لقد لامني عند القبور على البكا
أَمِنْ أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائح
فقال : أتبكي كل قبرٍ رأيتهُ
فقلتُ له : إن الشَّجا يبعث الشَّجا
رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ
على كل قبرٍ أو على كل هالكِ
لِقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدّكادِكِ
دعوني ، فهذا كله قبرُ مالكِ
الموت هاذم اللذات ، ومفرق الجماعات ، ميتم البنين والبنات ، مخرب الديار العامرات ، أسقى النفوس ، مرارة الكؤوس ، وأنزل التيجان من على الرؤوس، نقل أهل القصور إلى القبور ، وسلّ على الأحياء سيفه المنشور ، ألصق الخدود باللحود ، وساوى بين السيد والمسود ، زار الرسل والأنبياء ، وأخذ الأذكياء والأغبياء ، فاجأ أهل الأفراح بالأتراح ، ونادى فيهم الرواح الرواح ، كم من وجه بكفه لطمه، وكم من رأس بفأسه حطّمه ، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمِّه ، ويخنق النائم ورأسه على كمِّه ، ينـزل الفارس من على ظهر الفرس ، ويقتلع الغارس وما غرس ، يخلع الوزير من الوزارة ، ويحطّ الأمير من الإمارة ، إذا اكتمل الشاب ، وماس في الثياب ، وصار قوي الجناب ، يُرجى ويُهاب، عفّر أنفه في التراب ، يدوس ذا البأس الشديد ، والرأي السديد ، ويبطح كل بطل صنديد ، ولو كان خالد بن الوليد ، أو هارون الرشيد ، يسحب الملوك من العروش ، ويركب الجيوش على النعوش ، أسكت خطباء المنابر ، وأذهل حملة المحابر ، وشتت أهل الدفاتر ، وطرح الأحياء في المقابر ، كسر ظهور الأكاسره ، قصّر آمال القياصره، زلزل أساس ساسان ، وما سلم منه سليمان ، وما نجا منه قحطان وعدنان، صبّح ثمود وعاد ، وخرّب دار شداد وما شاد ، وهدم إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد، لا يترك السلاطين ، حتى يوسدهم الطين ، لا تظن أنك منه ناج ، ولو سكنت الأبراج .
الموت ينادي كل صباح : الرواح الرواح ، ويصيح كل مساء : يا حسرة على الأحياء ، ويقول للناس : لِدوا للموت وابنوا للخراب ، فكلكم يصير إلى ذهاب ، يا من أعجبه شبابه ، وألهته ثيابه ، وأحاط به حرسُه وحجابُه ، أنسيت الموت وقد وصلك ركابُه ، يا من أشغله السكن ، وحب الوطن ، وأمن المحن ، كأنك بالموت زارك ، وهدم دارك .
ستنقلك المنايا عن ديارك
فدود القبر في عينيك يرعى
ويبدلك البِلا داراً بدارك
وترعى عين غيرك في ديارك
الموت كأس يدور على الأحياء ، لابد أن يشربه أبناء حواء ، الموت ليس له موعد مناسب ، فهو يأتي القاعد والماشي والراكب ، في ليلة الزفاف ، إذا اجتمع الأضياف ، يقدم الموت بحشوده ، ويهجم بجنوده ، يأخذ العريس أو العروس ، لأن مهمته قطف النفوس ، يهنّأ الإنسان بالإمارة ، ويبارك له بالوزارة ، ثم يشنّ عليه الموت الغارة .
يولد المولود ، ويعود المفقود ، ثم يفجؤ الموت الجميع بروعته، فتمتزج بسمة المحب بدمعته ، يكتمل الاجتماع ، ويلتقي الأحباب من كل البقاع ، فإذا تمت السعاده، وكل قلب بلغ ما أراده ، وصل الموت ففرق الجمع ، وأسبل الدمع .
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها
متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
وعلّ الـردى مما نرجيه أقرب
وقف أحد الصالحين على المقابر ، ودمعه يتناثر ، فقال : يا موت ماذا فعلت بالأحباب ؟ وماذا صنعت بالأصحاب ؟ ثم أجاب نفسه بنفسه ، فقال : يقول الموت : أكلت الحدقتين ، وأفنيت العينين ، ونهشت الشفتين ، وقطعت الأذنين، وفصلت الكفين من الرسغين ، والرسغين من الساعدين ، والساعدين من العضدين ، والعضدين من الكتفين ، وفصلت القدمين من الكعبين ، والكعبين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الوركين .
أتيت القبور فناديتها
تفانوا جميعاً فما مخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا
تروح وتغدو بنات الثرى
أين المعظّم والمحتقر
وماتوا جميعاً ومات الخبر
أما لك فيما مضى معتبر
فتمحو محاسـن تلك الصور
إذا رأيت قصراً مشيدا ، وملكاً عتيدا ، وبأساً شديدا ، فتذكر الموت فإذا القصر تراب ، والملك خراب ، والبأس سراب .
إذا رأيت امرأة حسناء ، أو حديقة غنّاء ، أو روضة فيحاء ، فتذكر الموت فإذا الحسن مسلوب ، والجمال منهوب .
فضح الموت الدنيا ، فلم يدع لذي لب فرحا ، ولكن أين من صحا ، وأصلح فصار مفلحا .
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً
طبعت على كدر وأنت تريدها
ألفيته خبراً من الأخبارِ
صفواً من الأقذار والأكدارِ
ويل لمن أشغله ماله ، وألهاه جماله ، وصده عياله . متى الإفاقة يا من بحب الدنيا مخمور ، وببهرجها مغرور ، أما تذكر إذا بعثر ما في القبور وحُصِّل ما في الصدور .
أين من رفرفت عليهم الرايات ، ورفعت لهم العلامات ، وأقيمت لهم الحفلات ، وانعقدت لهم المهرجانات .
صاحِ! هذي قبورنا تملأُ الرّحـ
خفِّفِ الوطء ما أظنُّ أدِيمَ الأ
سِرْ إن اسطعتَ في الهواء رويدا
رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مرارا
ودفينٍ على بقايا دفينٍ
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعـ
إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعا
ـبَ فأين القبورُ من عهدِ عادِ ؟
رضِ إلا من هذه الأجسادِ
لا اختيالاً على رُفاتِ العبادِ
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
في طويل الأزمان والآبادِ
ـجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ
فُ سرورٍ في ساعة الميلادِ
أين من ولّى وعزل ، وأين من ظلم وأين من عدل ، وأين من سجن وجلد وقتل ، أين من حفت به الجنود ، واجتمعت عليه الحشود ، وخفقت على رأسه البنود ، أين من دارت عليه الكؤوس ، وانخلعت من هيبته النفوس ، وطارت بأوامره الرؤوس ، أين من جمع ومنع ، ووصل وقطع ، واغتنى وافتقر ، وهزم وانتصر .
باتوا على قللِ الأجبالِ تحرسهم
واستنـزلوا بعد عز من معاقلهم
تلك الوجوه التي كانت محجبة
لطالما أكلوا يوماً وكم شربوا
غلب الرجال فما أغنتهم القلل
إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا
من دونها تضرب الأستار والحلل
فأصبحوا في لحود الأرض قد أكلوا
بعض السلف ذكر الموت فخارت قواه ، وصاح أوّاه، وبعضهم كاد أن يطير لبه ، وأن يتفطر قلبه .
إذا رأيت الإخوان والجيران والخلان ، فتذكر كل من عليها فان .
إذا أبصرت البستان والأفنان والأغصان ، فتذكر كل من عليها فان .
إذا شاهدت القصور والدور والحبور والسرور فتذكر يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور .
الله سمّى الموت مصيبه ، وأنت عنه في غيبه ، أخذ القوي والضعيف ، والوضيع والشريف ، والغالب والمغلوب ، والسالب والمسلوب ، قبر الغني جوار قبر الفقير ، وقبر المأمور بجانب قبر الأمير .
الموت مباغت لا يستأذن ، ومهاجم لا يُؤمَن ، لا يترك شاباً ليكتمل شبابه ، ولا صاحباً ليتمتع به أصحابه ، ولا حبيباً يستأنس به أحبابه ، يفصّل الثوب فيأخذ صاحبه قبل أن يلبس ، ويبنى المجلس فيخترم الموت الباني قبل أن يجلس ، تزف المرأة لزوجها فيهاجمه الموت ليلة الزواج ، يزرع الزارع فيختلسه الموت قبل النتاج ، الموت له صور وأشكال ، ومشاهد وأحوال ، مرة يقتل بسيف أو برمح ، أو داء أو جرح ، أو بعرق ينبض ، أو بعضو يمرض ، أو بحرب هائله ، أو مجاعة قاتله ، المهم أنه لابد منه ، ولا محيص عنه قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ يصبّحكم أو يمسّيكم ، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ، أو دونكم جنود مؤيّده ، كل شيء هالك إلا وجهه الكريم ، وكل حي فانٍ إلا الحي القيوم .
الموت يسقط الطيور ، ويخطف الصقور ، ويلتهم النسور ، يصيد الموت كل عائمه ، ويدرك كل هائمه ، ويجتاح كل سائمه ، يزحف على الحيوانات ، والعجماوات ، والحشرات ، يدخل القصور والأكواخ ، ويصرع الأطفال والأشياخ ، فسبحان من خلق الموت آية ، وجعله نهاية ، وصيره لكل حي غاية . إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
زار الرسل والأنبياء ، ووفد على الأصفياء والأولياء ، وطاف على الحكماء والعلماء والأدباء والشعراء ، فسقى الجميع بكأسه ، وهشم الكل بفأسه ، فلا صاحب القصر نجا ، ولا محب الدنيا عمّر ولو رجا ، ولا الكاره له سلم منه ولو ذمّه وهجا ، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ .
نعد المشرفية والعوالي
ونرتبط السوابق مقربات
وتقتلنا المنون بلا قتالِ
فما ينجين من خبب الليالي
أخرج الموت وساوس ساسان ، وما سلم منه سليمان ، وخرّب ما شيده وشاده شداد ، وعاد بالكسر على عود ثمود وعاد ، وحط قحطان ، وأعدم عدنان .
الموت يفجؤ بعد العين بالأثر
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة
هي المنايا وقاك الله سطوتها
ومرّغت قيصر الرومي ودولته
ليت المنايا رعت من كان ذا همم
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة
وابن الزبير أتى بالبيت محتميا
قد ذاقها أنبياء الله ما سلموا
دع الليالي مع الأيام تصحبنا
فما البكاء على الأشباح والصورِ
عن نومة بين ناب الليث والظفرِ
دكت عروش ذو التيجان والخطرِ
وألصقت خد كسرى أضيق الحفرِ
وزلزلت أشبه الأحياء بالبقرِ
فدت عليّاً بمن شاءت من البشرِ
فمزّقته بقرب الركن والحجرِ
من فتلها فاعتبر ما جاء في السيرِ
فالبِيض والسُمر مثل البَيض والسَمرِ