مقـامَــــة الـبخــلاء
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ
إني نزلت بكذابين ضيفهم
جود الرجال من الأيدي وجودهموا
عن القرى وعن الترحال مردود
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
البخيل نذل ، والبخل خلق رذل ، وحسبك أن الرسول استعاذ من البخل ، وليت البخيل إذا علا مات ، لأن له على بخله علامات ، فمنها أن يفقد الصواب ، إذا طُرق الباب ، ويُكثر السباب ، عند رؤية الأجناب ، وإذا رأى الضيف ضاق صدره ، والتبس عليه أمره ، فتعلوه قشعريرة ، ويقع في حيرة ، ومنها أن يكثر الأعذار ، ليخرج نفسه من هذه الأخطار ، وإذا قام بضيافة ، نوّه بها وهوّ لها كأنه تولى الخلافة .
يذم الأجواد ، ويمدح الاقتصاد ، يتفجع إذا رأى طعامه يغرف من القدر ، تفجع الخنساء على أخيها صخر ، أوصى بخيل ولده ، وقد قطع بالإنفاق كبده ، فقال يا بني ما هذا الإسراف ، يا أيها المتلاف ، أما تخشى أما تخاف ، ما تؤثر فيك النصائح ، ولا تخاف الفضائح ، أين من كان يقتصد ، ويحفظ ماله ويجتهد ، كان أحدهم رحمه الله يضع ماله في صُره ، لِئلا يؤخذ على غِرّة ، ثم يُخرج الصرّة ، في كل سنة مرّة ، فيقرَأُ عليها المعوذات ، وأعوذ بكلمات الله التامات ، كان الرغيف يسد رمقه من الصباح إلى الليل ، لأنه يعلم أن الدهر أبو الويل ، فخلف من بعدهم خلف ، فيهم كل مسرف جلف ، يأكل في اليوم ثلاث وجبات ، ولا يتفكر في مصارع الأموات ، ليرتدع من هذه الزلات.
أما أخبار البخلاء ، فقد جمعها بعض الأدباء .
فمنها أن بخيلاً دخل بيته ونسي أن يغلق الباب ، فدخل على إثره فقير ممزق الثياب، فناوله البخيل قطعة خبزة ، ثم أخذ حبلاً وربطه وحزّة ، وقال والله لا أتركك تخيف مسلماً هذه الليلة ، أو تروع مؤمناً بكل حيلة .
وقدّم بخيل الطعام لضيوفه ، ثم جلس مهموماً محسورا ، وقال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ، وطرق فقير باب بخيل ، وقد أظلم الليل ، فلم يفتح البخيل بابه ، ولم يرفع حجابه ، فصاح الفقير بصوت كسير : أين من كانوا يفرحون إذا رأوا أضيافا ، فرد البخيل بقوله : ماتوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافا .
وأعطى أحد الوزراء بخيلاً مائة ألف دينار ، حتى أصبح بها من الأغنياء الكبار ، فقال له جيرانه ، هنيئاً لك المبلغ الكبير ، فقال : والله ما هو بكثير ، وعندي زوجة وطفل صغير ، فإذا أراد أن يخرج منها دينارا ، قبَّله مرارا ، وقال : بأبي أنت وأمِّي ، ما أطيبك حيّا ، وما أطيبك ميتا .
وقال فقير لبخيل أعطني درهماً فقط ، فقال هذا غلط ، وجور وشطط ، لأن الدرهم مع الدرهم ، مائة درهم ، ثم يزيد إلى ألف ، ثم إلى مائة ألف ، فتريد أن تهدم مالي ، وتجوع عيالي بسؤالي ، وافرض أنني أعطيت درهما ، فلن ألبث حتى أصير مثلك معدما ، فأنت تريد أن تغشنا فارحل عنا ، ومن غشّنا فليس مِنّا .
ودخل رجل أكول على بخيل فقدم له غداءه ، وجلس حذاءه ، وقال له يوصيه ، اجعل ثلث بطنك للغذاء ، وثلثاً للماء ، وثلثاً للهواء ، قال الأكول : بل كلها للطعام ، يا سيد الكرام ، لأن الماء سوف ينش ، والهواء سوف يفش ، فقال البخيل : أنا منذر محذر ، ومن أنذر فقد أعذر .
واعلم أن البخيل كثير الأعذار ، دائم الإنذار ، فإن جئته مبكراً قال : مالك تقدمت، وإن أبطأت قليلاً قال : هداك الله تأخرت ، إذا حل به ضيف نسي الترحيب ، وقال : هذا يوم عصيب ، وإن طرق بيته طارق ، رآه كأنه سارق ، وإذا دخل عليه الضيف قلل الكلام ، وأكثر على أهله السب والخصام ، ولا يسأل الضيف عن أخباره ، بل تراه كثير القيام والقعود بداره ، وتراه لا يترك في البيت صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فهو يعرف ما له علاقة بالنفقة قد ضبطها ووعاها ، إذا نقص دينه ذكر المعاذير ، وأن الإنسان لا يسلم من التقصير ، فإذا أراد أحد التعرض لشيء من ماله ، أنكر بقلبه ويده ولسانِه ، وأظهر الحمية والأخذ بالثأر ولو من إخوانه ، قد هيأ العذر لكل حاجه ، وإلاّ لَمْ يَجِدْ استعمل الغضب واللجاجة ، فإن أتاه طالب ، ووفد إليه راغب ، قال الحقوق كثيره ، والحاجات كبيرة ، ويعيد عليك متن خير الناس ، من لا يحتاج إلى الناس ، وأفضلهم من كف عنه الباس .
ومن وصايا البخيل : عليكم يا إخوان بحفظ المال ، فإنه لا يعلم أحد بتغير الأحوال، والدنيا من حال إلى حال ، ولن ينفعك إلا مالك ، ولن يقف معك أعمامك وأخوالك ، واذكروا يا إخوان تقلب الزمان ، وقلة الأعوان ، فرحم الله من أمسك ديناره، وأغلق داره، ولم تخدعه الدنيا الغراره ، فعليكم بالاقتصاد ، فإنه مذهب الأجواد ، فقد أدركنا أقواماً من الصالحين ، كانوا يكيلون الطحين ، ويقتصدون حتى في شرب الماء، لِئلا تذهب أقوالهم هباء ، ومنهم من كان يفترش التراب ، وينام على الأخشاب ، ومنهم من كان يكتفي بوجبة ، في اليوم واحدة ، ليغيظ بجمع المال حاسده ، ثم يقول : وقد أدركت قوماً من الأولياء ، ينامون بلا عشاء ، ويكتفون بالفطور عن الغداء ،وكان أحدهم إذا حدثته نفسُه الأمارة بالسُّوء بشراء طعام ، لامها أشد الملام ، وخطمها عن شهواتها بخطام ، وزمّها عن رغباتها بزمام ، ولقد أدركت عبداً من الأبرار ، وولياً من الأخيار ، حدثته نفسه الأمارة ، بشراء خيارة ، فرجع على نفسه بالتوبيخ ، وأقسم لها لن يعطيها هواها ولو أرادت قطعة من البطيخ ، لأن القوم لما صحت منهم العقول ، تركوا الفضول ، وحفظوا أموالهم من كل مسرف جهول ، ولقد أدركنا مريم العابدة ، المقتصدة الزاهدة ، وكانت تبيع الفصفص ، ولها في ذلك علم وتخصص ، فإذا اجتمع لها ريال ، وضعتها وراء الأقفال ، وأقسمت بالله لا يزال حتى تزول الجبال ، وكانت رحمها الله ، إذا ظمأ الحمار ، ابطأت عليه بالماء ولو كان الماء في الدار ، لتعوّده التحمل والاصطبار ، وكانت تأخذ النخالة من الشعير ، فتجعلها كالخبز الفطير ، وكانت تمشي بين القرى ، تجمع قطع الفرى، وكلما وجدت عوداً أخذته ، وإذا مرت بحب جمعته ، فلا يأتي المساء ، إلا وقد أدركها الإعياء ، لكن يهون التعب ، ويذهب النصب ، إذا تذكرت صروف الأيام ، وطول الأعوام ، قال : وقد أدركت شيخاً كبيرا ، كان بالأيام بصيرا ، بقي عليه ثوبه عشرين عاما ، حتى أصبح الثوب ألواناً وأقساما ، فكلما انخرق الثوب خاطه برقعة، حتى صار مائة بقعة ، ثم جاء قوم من المبذرين ، لا يحبّون المنذرين ، يفني أحدهم ثوباً كل عام ، ولا يخاف العذاب والملام ، قال : ولقد أدركت حامد المقتصد ، وكان في حفظ المال يجتهد ، بقيت معه حذاؤه عشر سنوات ، وكان يمشي حافياً في الفلوات ، وربما حمل حذاءه بيده الكريمة ، خوفاً من العواقب الوخيمة ، فإذا نام جعلها تحت رأسه ، حرصاً عليها من غدر السارق وبأسه ، فانظر حرصهم رحمهم الله على حفظ المال ، وعدم اغترارهم بلوم الرجال ، فأين حالنا من حالهم ، ولذلك لا يقارن مالنا بمالهم ، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف ، وأخذ يقول ما أحسن أخبار من سلف، وما أكثر إسراف هؤلاء الخلف .